هذه التفاتة سريعة ونظرة لامحة نتجول خلالها ضمن كتاب يهمّ الدارسين في العلوم الاجتماعية وكذا القادة والمسؤولين بشكل عام، فلا يستغني عنه أحد منهم، الكتاب يسمى “سيكولوجية الجماهير” أو “علم نفسية الجماهير” لصاحبه غوستاف لوبون (07 ماي 1841 – 13 ديسمبر 1941؛ طبيب ومؤرخ فرنسي) الذي صدر للمرة الأولى عام 1895 م أي قبل حوالي 150 سنة من اليوم، في خضم أجواء مشحونة وتغيّرات جيوسياسية واجتماعية متزايدة، جرّاء تراكم جمع من الأفكار على مدى دهر من الزمن لدى الجمهور الفرنسي خاصة والأوربي بشكل عام.

كانت الأفكار المعروضة في هذا الكتاب آنذاك إبّان حياة غوستاف لوبون غريبة وغير معقولة ولم يتقبلها كثيرون لأنها جاءت بطرح جديد لم يعهدوه في ذلك الزمن، ولكن اليوم أضحت هذه الأفكار كلاسيكية ومقبولة وتتسم بالعقلانية والمنطق، وقد ترجم كتاب “سيكولوجية الجماهير” إلى كثير جدا من اللغات، وأضحى يتسم بالعالمية، لأن الأفكار والنظريات التي يحويها تناسب كل الشعوب والأعراق والخلفيات الأيديولوجية المنتشرة عبر جميع بلدان العالم ولا تختص ببلد معين كالدول الأوروبية مثلا.

الكتاب يركّز أساسا على الجماهير، أي الشعوب بمعنى آخر، وكيف أنّ هذه الجماهير تتعرض لوابل من الأفكار والمعتقدات الممارسة عليها، والتي تدخل ضمن العقل اللاواعي لتلك الجماهير، مما يجعلها في كثير من الأحيان تقوم بأمور خطيرة أو غير متوقعة ومتقلبة، بسبب ما تستقبله تلقائيا من المحيط حولها، وحاول لوبون دراسة العلاقة بين ما تقوم به الجماهير وبين ما تتلقاه من محرّضات، مع إبراز الخصائص المشتركة بين أفراد الشعب والوسط المحيط به التي تشكل روح هذا الشعب.

لقد لعبت الجماهير دورا مهما في تغيير عجلة التاريخ، وهي اليوم تلعب دورا أكثر أهمية، بسبب تعدد وتعقد المحرّضات الممارسة عليها، فالعمل اللاواعي للجماهير اليوم بحاجة للدراسة أكثر من ذي قبل فهو أحد مفاتيح معرفة طرق السيطرة على الجماهير وفق استراتيجيات مضبوطة تراعي الحالة المتطورة الآنية وتغيّر الزمان وعقليات الناس.

الجماهير لها عواطف وأخلاقيات منها سرعة الانفعال، فهي من الخصائص الأساسية للجمهور، فهو مقوّد كليا تقريبا من قبل اللاوعي، فالفرد المعزول يمكن أن يقف وجه المحرّضات ويعرضها على عقله، فيميز الحق من الباطل والصحيح من الخطأ، أما الجمهور فيخضع لها ولا يعرضها على ميزان العقل، لأنه بالأساس يفكر بالعقل اللاواعي ضمن الجماعة، فالجماهير يمكن أن تموت لأجل الانتصار لعقيدة أو عندما تؤمن بقضية ما وان كانت على باطل.

الأمر الآخر الذي تتميز به الجماهير سرعة تأثرها وسذاجتها وتصديقها لأي شيء، وللتوضيح فما نعني به من كلمة سذاجة، ليس تلك التي يقصدها ابن خلدون في مقدمته، والتي هي الفطرة والسليقة في الإنسان، ولكن السذاجة هنا هي بمعنى الطيش وخفّة العقل، فالجماهير يستوي فيها الجاهل والعالم، لأنهما يصبحان عاجزان عن الملاحظة والنظر، فبمجرّد أن ينخرط الفرد في التدهور، فإنّ مستواه الفكري ينخفض إلى حدّ بعيد مهما درجته العلمية والفكرية، فيكفي إطلاق اقتراح ما في تجمع بشري معيّن الا وسيحظى بانتشار واسع، بغض النظر عن مصداقيته أو صحّته. والملاحظات الجماعية دائما هي الأكثر بعدا عن الصواب، وهي تمثّل في الأغلب الأعم مجرد وهم تشكل لدى فرد واحد ثم انتقل عن طريق العدوى إلى الآخرين.

تتسم الجماهير في أحوال كثيرة بتضخيم العواطف وتبسيطها، فهي تمارس الأمرين على حد سواء، وفق الحالة المنوطة بها والمحرّضات التي مورست عليها إما بالإيجاب أو السلب، فهي تضخّم وتبسّط العواطف حسب الحاجة، فالجماهير تحمي نفسها بتضخيم العواطف، حتى تتخلق من الشكوك وتأنيب الضمير، وغالبا تكون نظرة الجماهير للأمور على أنها كتلة واحدة ولا تعرف في ذلك التدرجات الانتقالية، بل تكون كلا واحدا لا يتعدد، وإن تغيّر الزمان والمكان، فالضمير الجمعي المفكر عندها في حالة تخدير، والأفعال تكون تابعة للاوعي الذي لا يحلل ولا يقارن بين الأمور.